جريمة في مصر- كرم مفرط وثقة قاتلة

في حادثة مفجعة هزت أرجاء مصر، لقي رجل أعمال سعودي مصرعه على يد حارس الفيلا الخاص به، ذلك الشخص الذي طالما أغدقه الرجل بفيض كرمه وعطفه، وأمطره بسيل من الهدايا والمكافآت. كان المغدور رمزًا للعطاء والإنسانية، سخيًا إلى أبعد الحدود، فقبل الواقعة المأساوية بوقت وجيز، أهداه هاتفًا ذكيًا ومبلغًا ماليًا معتبرًا. ورغم هذا الإحسان المتدفق، لم يرتدع الحارس عن اقتراف جريمته الشنيعة النكراء.
هذه الفاجعة الأليمة تستدعي منا وقفة للتأمل العميق في مفهوم الثقة العمياء، ذلك الإحساس الزائف بالاطمئنان الذي قد يغيب معه التقدير الصائب للأمور. قد نغفل أحيانًا عن أن أولئك الذين نغدق عليهم بكرمنا الجم قد لا يعكسون لنا حقيقة نواياهم الدفينة، وأن خلف ابتسامة زائفة قد يكمن وجه آخر يحمل في طياته أغراضًا خفية ونيات مبيتة.
إن الحكمة الأمريكية المعروفة «Stranger Danger»، والتي تحذر من مغبة الثقة المفرطة في الغرباء، تحمل في طياتها درسًا أعمق وأشمل، ألا وهو أن هذا التحذير لا يقتصر على الغرباء فحسب، بل يمتد ليشمل جميع من نحيط بهم في دائرة حياتنا. يجب أن نتحلى بقدر وافر من الحيطة والحذر، وألا نعتبر أن بذل المال أو تقديم الهدايا هو صك ضمان للأمان المطلق أو الولاء الدائم. الثقة الحقيقية هي تلك التي تُبنى عبر الزمن، وتستند إلى أفعال متبادلة تعكس الاحترام والتقدير، لا مجرد مظاهر سطحية من المجاملة أو الهدايا العابرة.
من المحزن أن تكشف لنا مثل هذه الأحداث الوجه القاتم لبعض النفوس، وتعرّي لنا خفايا النوايا المبطنة. فبالرغم من أن العطاء والكرم هما من أسمى القيم الإنسانية التي نسعى جاهدين لترسيخها في مجتمعاتنا، إلا أن استغلالها من قبل بعض الأفراد الانتهازيين يدفعنا إلى إعادة تقييم أساليبنا في التعبير عنها. الحذر هنا لا يعني بتاتًا التوقف عن البذل والعطاء، بل يعني إمعان النظر فيمن يستحق العطاء، وفي وضع حدود واضحة للعلاقات التي تتجاوز حدود المجاملة والبروتوكول.
الثقة المفرطة قد تقود إلى كوارث وخيمة، ليس فقط على الصعيد الشخصي، بل أيضًا على صعيد الأسرة والمجتمع بأسره. إن التساهل المطلق، وغض الطرف عن تعقيدات النفس البشرية، قد يعرض الإنسان لخطر جسيم لا تُحمد عقباه. ولعل الحادثة المأساوية التي نحن بصددها خير مثال على ذلك؛ إذ لا يمكن لأحد أن يتخيل أن الحارس الذي كان ينعم بكرم صاحب العمل سيكون هو نفسه من يزهق روحه بيده الآثمة. هذا الغدر الصارخ يوضح لنا بجلاء أن النوايا الحقيقية للأفراد لا يمكن قياسها بمجرد الأفعال الظاهرية التي يقومون بها تحت وطأة المصلحة أو المنفعة.
من هذا المنطلق، يجب أن نستحضر دائمًا الحكمة الخالدة التي تقول: «احذر عدوك مرة وصديقك ألف مرة». فالأشخاص الذين كانوا يومًا ما مقربين منا قد يشكلون الخطر الأكبر إذا ما تبدلت نواياهم الخفية أو انقلبت موازين مصالحهم الشخصية. علينا أن نعي تمامًا أن الثقة التي نمنحها للآخرين يجب أن تكون محسوبة ومدروسة، وأن نحافظ دائمًا على قدر معقول من الحذر الذكي الذي لا يتعارض مع قيمنا الإنسانية النبيلة، بل يحميها من الإساءة والاستغلال البشع.
من الطبيعي جدًا أن يسعى الإنسان جاهدًا إلى بناء علاقات وطيدة ومتينة مع من حوله، خاصة أولئك الذين يعتمد عليهم في تسيير أمور حياته اليومية، مثل الموظفين والعاملين المحيطين به، والمطلعين على أسراره الخاصة وممتلكاته الثمينة. ولكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن نتجاهل ضرورة الحفاظ على مسافة آمنة من الحذر والحيطة. فالأمن الشخصي والأسري يجب أن يظل دائمًا في صدارة أولوياتنا، وأن نتعلم كيف نحمي أنفسنا وأسرنا من خلال وضع حدود واضحة في علاقاتنا مع الآخرين، مهما بدوا لنا جديرين بالثقة.
إن النصيحة الأمريكية «Stranger Danger» ليست موجهة فقط للأطفال الصغار أو للمواقف التي تنطوي على التعامل مع الغرباء المطلقين، بل يجب أن تصبح جزءًا لا يتجزأ من فلسفتنا في الحياة عند التعامل مع جميع أصناف الناس. الثقة جوهرة نفيسة، ولا يجب أن تُمنح ببذخ أو استهتار. علينا أن ندرك تمام الإدراك أننا مسؤولون مسؤولية كاملة عن أمننا وسلامتنا، وأن نضع العقل والوعي في مقدمة أولوياتنا عند التعامل مع الآخرين، سواء كانوا غرباء لا نعرفهم أو ممن نعتبرهم مقربين وأصدقاء. الحياة حافلة بالتجارب القاسية والمفاجآت غير المتوقعة، ولعل هذه الحادثة المأساوية تكون بمثابة درس بليغ لنا جميعًا لندرك أن الثقة المفرطة قد تكون أحيانًا أقصر الطرق المؤدية إلى الخطر المحدق، وأن الحذر الشديد والوعي الكامل هما الحصن المنيع الذي يحمينا من غدر الآخرين ومكائدهم الدنيئة.
